بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الغني الحميد , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه , وبعد:
فسبب كتابة هذا المقال , هو أن بعض ضعاف الإيمان والعلم , ومن في قلوبهم مرض, يظنون أن سبب تخلف المسلمين اليوم ماديًا.
في كونهم إنما يستوردون لا يصنعون ويصدرون , في أهم الأشياء المادية , يظن هؤلاء أن سبب ذلك كثرة التدين وزيادة المواد الدينية المقررة في المدارس ,
من قرآن وتوحيد وتفسير وحديث وغير ذلك! فتجد أحدهم ما أن يتسنى له كتابة شيء حول هذه المسألة حتى يطالب بتغيير المناهج.
ويطالب بزيادة مواد العلوم المادية على حساب مواد العلوم الدينية , وربما طالبوا بمدارس مختلطة بحجة أن مثل هذه المدارس لا بد فيها من الاختلاط ,
وما علموا أن هذا من اسباب العقوبات , وأن شفاء أمة محمد لا يكون فيما حرم عليها كما صح به الحديث الشريف؛ لذلك أحب أن أبين بالبرهان أن هذا باطل , وجهل , وضلال وانحراف , وأنه يسبب زيادة تراجع الأمة ومما يبين أن تقدمنا المادي سببه ضعف الإيمان الأدلة النقلية والحسية التاريخية؛
أما الأدلة النقلية فمتواترة , منها: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف:96].
ومنها قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3] , ومنها قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل:97].
وغيرها كثير ومن تدبر القرآن طالبا الهدى منه تبين له طريق الصواب.
وفي الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:
(من كان هَمُّهُ الآخِرَةَ: جَمَعَ الله شَمْلَهُ , وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبِهِ , وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي رَاغِمَةٌ , وَمَنْ كانت نِيَّتُهُ الدُّنْيَا: فَرَّقَ الله عليه ضَيْعَتَهُ , وَجَعَلَ فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ , ولم يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ ما كُتِبَ له) رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة , وصححه ابن حبان والألباني.
فالدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه: (يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا , وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج , فان بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا , وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر).
وفي الحديث عند أحمد وابن ماجة عن ثَوْبَانَ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ , وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ الا الدُّعَاءُ , وَلاَ يَزِيدُ في الْعُمْرِ الا الْبِرُّ). صححه جمع من أهل العلم.
والأدلة في هذا أكثر من أن تحصر.
أما الأدلة الحسية التاريخية , فمعلوم أن تقدم أوروبا المادي اليوم سببه قوة تدين المسلمين عندما كانت علومهم الشرعية عظيمة وإيمانهم بالله قويًا.
وهذا يعترف به كل المؤرخين والمحققين المنصفين في الشرق والغرب , وقد كتب في ذلك كتب كثيرة جلت هذه الحقيقة ونقلت كلام المؤرخين والعلماء الغربيين قبل الشرقيين ,
فقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في ظلام دامس , وحين مبعثه وبعده في القرون الأوروبية الوسطى كانت أوروبا في عصورها المظلمة , الغارقة في التخلف والخرافة والرجعية ,
فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعث بسبب القرآن والسنة في الأرض نهضة وتقدمًا عظيمين , تحرك بسببه العرب مؤمنيهم وفلاسفتهم.
وبسبب احتكاك الأوروبيين بهم تأثروا بهم , وأخذوا منهم منهج التجربة والملاحظة ورفضوا منطق أرسطو , وسرقوا كتب المسلمين , في الوقت الذي ضعف إيمان المسلمين ,
فتخلفوا ماديا , وأصبحوا يأخذون عن تلاميذهم الغربيين , وكان هذا معروفا عند الغربيين إلى أن نشأ فيهم الحاقدين , فنهوا الناس عن نسبة الفضل إلى المسلمين لألا يتأثر الأوروبيون بدينهم , وأنكروا هذه الحقائق حتى نسيت عند أكثرهم.
وما يفعله هؤلاء من نسبة التخلف المادي إلى الدين وأهل التدين , سنة معروفة لأعداء الرسل , كما قال تعالى: (فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:131].
ولا يعارض هذا كونه تعالى قد يبسط الدنيا للكافر والفاجر , لأني أتكلم عن ضعف المسلمين العام.
ولأن البسط للكافر والفاجر إنما هو استدراج وهو ضار غير نافع , وإنما أتكلم عن التقدم المثمر النافع وهو الخادم للدين , المورث سعادة الدارين. فسببه الإيمان وقوة العلوم الشرعية ,
ونحن نشهد اليوم ضعفًا في العلوم الشرعية في الجامعات وغيرها , سبَّب الضعف في غيرها.
فإن المؤمنين إذا قوي إيمانهم قويت غيرتهم وحرصوا على الاستغناء عن عدوهم وإعداد القوة للدفاع عن بيضتهم.
فبالنِّية هذه يفتح الله عليهم , ويعينهم كما تعلَّم زيد اللغة السريانية في ثمانية عشر يومًا لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , ليقرأ له رسائل بالسريانية.
فهذا بيان مختصر يكفي اللبيب , ومن أراد التوسع فعليه بالكتب المطولة في ذلك , والله تعالى أسأل أن يردنا إلى مجدنا وعزنا.
وأن يهدي ولاة أمورنا وضالنا , وأن ينصرنا على عدوه وعدونا , والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الكاتب: د.عبدالقادر بن محمد الغامدي
المصدر: موقع الإسلام اليوم